الحياة الثقافية في اﻷسكندرية اثناء الحكم الروماني

  كانت اﻷسكندرية في العصر البطلمي أشهر مركز في العالم في مجال اﻷدب و العلم قصدها كثير من العلماء و الدارسين إما لينضموا إلي هيئة علماء المكتبة و دار الحكمة أو ليغترفوا من معين هؤلاء العلماء. وقد تركت مدرسة اﻷسكندرية اﻷدبية أثرها علي مراكز اﻷدب اليوناني اﻷخري حتي في بلاد اليونان نفسها ثم تعدي تأثيرها العالم اليوناني إلي روما فظهر هناك أدباء و شعراء ﻻتينيون متأثرون باتجاهات اﻷدب السكندري و يحاكون نماذجه كما يحاكي بعض أدبائنا العرب اﻵن نماذج اﻷدب اﻷوروبي. ومن الغريب أن هذا التأثير علي روما بلغ ذروته في عصر كليوباترا أي في الفترة التي تم في نهايتها ضم مصر إلي اﻹمبراطورية الرومانية حتي من أراد من أدباء روما أن يخرج علي قوالب اﻷدب السكندري كان يفعل ذلك بقصد الثورة علي سيطرة هذا اﻷدب علي عقول اﻷدباء الرومان.
  لم يكن مستغربا إذن أن يحتضن الرومان مؤسسات الثقافة و العلم في اﻷسكندرية بعد الفتح فبقيت المكتبة و دار الحكمة تلقيان التشجيع و التأييد من اﻷباطرة و تبذل لعلمائها العطاءات و اﻻمتيازات المختلفة كإعفاء من الضرائب و تناول الطعام من دار الحكمة دون مقابل.

  يجب أن نذكر أن دار الحكمة هذه كانت بمثابة أكاديمية للبحث وليست جامعة للتدريس إﻻ أن بها قاعات يجتمعون فيها و يتباحثون فيها. ونحن نعرف أن اﻹمبراطور هارديان زار علماء دار الحكمة و شهد بعض ندواتهم و اشترك في مناقشتهم و بمناسبة زياراته زاد عدد علمائها بتعيين كثير من اﻷساتذة و الفﻻسفة و منهم من كان من الفﻻسفة المتجولين الذين لا يقيمون في اﻷسكندرية فكانوا أشبه بأعضاء مراسلين لدار الحكمة كما نقول اﻵن.
  وجدت إلي جوار دار الحكمة و المكتبة مدارس و قاعات للمحاضرة يدرس بها من شاء من هؤلاء العلماء أو غيرهم و كانت هذه المدارس تكون ما يمكن ان يسمي بجامعة اﻷسكندرية كما نفهم اﻵن معني الجامعة و كان يقصد هذه المدارس كثير من الطلاب من الأسكندرية و خارجها. و الحياة الجامعية بها أشبه بالحياة الجامعية الكبري اﻵن التي يقصدها الطلاب من جميع اﻷنحاء. لكن هناك مشكلة بها و هي قلة هيئة التدريس من ناحية و انخفاض مستوي اﻷساتذة من ناحية أخري و كذلك ارتفاع المصاريف الجامعية. بقيت الجامعة في اﻷسكندرية بخير و استمرت تسهم في مجال الحضارة و العلم اﻹنساني طوال تاريخها القديم رغم أن نوع اﻹنتاج الفكري الذي امتازت به اﻷسكندرية في العصر الروماني اختلف عن طابع الذي تميزت به في العصر البطلمي.

  وقد اشتهرت إسكندرية البطالمة باﻷدب و دراساته و كذلك بالبحث العلمي الذي اثر احيانا علي اﻷنتاج اﻷدبي. وقد رأينا من بين من نبغ في اﻷسكندرية عددا من كبار الشعراء أمثال كاليماخوس و ثيوكريتوس و كذلك عدد من كبار العلماء امثال إقليدس و ايراتوسثتيس و أرشميدس.

  آما إسكندرية العصر الروماني فلم تحافظ علي تفوقها اﻷدبي ويبدو أن عدم وجود القصر الملكي البطلمي في اﻷسكندرية أفقد الشعراء التشجيع الكافي لبعث إلهامهم. أما في مجال العلم فقد حافظت الأسكندرية علي حمل مشعل التقدم فيه. وأشهر علماء هذه الفترة من غير منازع هو بطليموس الجغرافي الذي اشتهر كثيرا بين العرب فيما بعد وهو من ابناء مصر في القرن الثاني الميلادي و يعتبر قمة في علم الجغرافية القديمة متميزا علي سابقيه من امثال إسترابون وذلك لأنه لم يكن مثلهم جغرافيا فحسب بل رياضيا مجددا إلي جانب كونه فلكيا و عالما طبيعيا و بهذا القدر العظيم من العلم تصدي بطليموس لمشكلة أعجزت القدماء و هي دراسة الجغرافية علي أساس رياضي فلكي و عمل خريطة للعالم وضح عليها اﻷماكن في كل بلد بنسبة أبعادها الصحيحة هذا العمل العظيم أنجزه بطليموس الذي قفز بعلم الجغرافية قفزة كبري في الاتجاه الصحيح.
  أول فيلسوف متميز لمدرسة اﻷسكندرية هو فيلون اليهودي الذي عاش في القرن اﻷول الميلادي وكان من الطبيعي أن يتصدي لهذا الموقف حينئذ ﻷن اليهود كانوا الفئة الوحيدة التي تدين بالتوحيد وكانت الدعوة الجديدة بدعوتها إلي التوحيد قد واجهت الموسوية بتحد خطير كما أن الفلسفة اليونانية كانت تسلب الموسوية احيانا بعض ابنائها فقام فيلون بمحاولة تسويغ دينه للعقل الجديد مستعينا بالفلسفة اليونانية علي شرح الموسوية. فيبدأ بموقف ديني ثم يتطرق منه إلي الدليل الفلسفي علي صدق الدعوة الدينية.
  هذا اﻻتجاه الجديد كان خطيرا جدا علي التفكير الفلسفي فيما بعد و سيصبح لمنهجه تأثير كبير علي التفكير الفلسفي و الديني في العصور الوسطي اﻹسلامية و المسيحية حين يشغل المفكرون أنفسهم بإثبات قضايا الدين عن طريق الفلسفة.
  أما الفيلسوف الكبير اﻵخر الذي تخرج في اﻷسكندرية و يعتبر زعيم اﻷفﻻطونية الحديثة فهو أفلوطين من أبناء صعيد مصر في القرن الثالث الميلادي و كانت الوثنية قد بدأت تضعف شوكتها أمام اﻻتجاه المسيحي الجديد ولهذا تصدي أفلوطين لحل المشكلة عن طريق الفلسفة مبتدئا هذه المرة بالفلسفة و منتهيا بالفكرة اﻹلهية. ولقد حرص أفلوطين علي استكمال ثقافته الفلسفية و ألتحق بجيش روماني كان ذاهبا إلي الشرق كي يستطيع أن يلم بحكمة الهند و فارس. و لكنه بعد موت اﻹمبراطور قائد الحملة عاد مسرعا إلي إنطاكية و منها إلي روما حيث قضي بقية حياته يحاضر هناك. وكان لما عرف عنه من عفة و نقاء و سلوك تصوفي أثر كبير علي أتباعه و مريديه من جميع الطبقات.
  لم يكن غريبا إذن أن تجمع فلسفة أفلاطون بين الفلسفة اليونانية و الفكر الشرقي فهو يعتمد أساسا علي فلسفة أفلاطون و الفيثاغورثية الجديدة إلي جانب اﻷخذ بنظرية الفيض اﻹلهي الشرقية. ومجمل نظريته تدعو إلي وجود عالمين عالم الحس و عالم العقل المجرد ويتوقف علينا أن نتجه بأفكارنا نحو أي العالمين. وعالم العقل المجرد هو اﻷسمي و ينبغي أن يتجه نحوه كل إنسان عاقل. وبقدر ما نتجرد من التعلق بأسباب الدنيا و اﻻنطﻻق نحو التأمل الفكري و نقترب من الهدف و بقدر ما نرتفع في هذا العالم نزداد اقترابا من الخير المطلق حتي تتم عودة النفس إلي المبدأ اﻷول و التوحيد بالله عز وجل.

تعليقات